كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وهو الذي أشار إليه الصديق الأكبر أبو بكر رضي الله عنه حيث قال العجز عن درك الإدراك إدراك بل هو الذي عناه سيد البشر صلوات الله عليه وسلامه حيث قال لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك ولم يرد به أنه عرف منه ما لا يطاوعه لسانه في العبارة عنه بل معناه إني لا أحيط بمحامدك وصفات إلهيتك وإنما أنت المحيط بها وحدك.
فإذا لا يحظى مخلوق في ملاحظة حقيقة ذاته إلا بالحيرة والدهشة وأما اتساع المعرفة فإنها تكون في معرفة أسمائه وصفاته.
فإن قلت فبماذا تتفاوت درجات الملائكة والأنبياء والأولياء في معرفته إن كان لا يتصور معرفته فأقول قد عرفت أن للمعرفة سبيلين أحدهما السبيل الحقيقي وذلك مسدود إلا في حق الله تعالى فلا يهتز أحد من الخلق لنيله وإدراكه إلا ردته سبحات الجلال إلى الحيرة ولا يشرئب أحد لملاحظته إلا غضت الدهشة طرفه.
وأما السبيل الثاني وهو معرفة الصفات والأسماء فذلك مفتوح للخلق وفيه تتفاوت مراتبهم فليس من يعلم أنه عز وجل عالم قادر على الجملة كمن شاهد عجائب آياته في ملكوت السموات والأرض وخلق الأرواح والأجساد واطلع على بدائع المملكة وغرائب الصنعة ممعنا في التفصيل ومستقصيا دقائق الحكمة ومستوفيا لطائف التدبير ومتصفا بجميع الصفات الملكية المقربة من الله عز وجل نائلا لتلك الصفات نيل اتصاف بها بل بينهما من البون العظيم ما لا يكاد يحصى وفي تفاصيل ذلك ومقاديره يتفاوت الأنبياء والأولياء.
ولن يصل إلى فهمك هذا إلا بمثال ولله المثل الأعلى سورة النحل الآية 60 ولكنك تعلم أن العالم التقي الكامل مثلا مثل الشافعي رضي الله عنه يعرفه بواب داره ويعرفه المزني رحمه الله تلميذه فالبواب يعرفه أنه عالم بالشرع ومصنف فيه ومرشد خلق الله عز وجل إليه على الجملة والمزني يعرفه لا كمعرفة البواب بل معرفة محيطة بتفاصيل صفاته ومعلوماته بل العالم الذي يحسن عشرة أنواع من العلوم لا يعرفه بالحقيقة تلميذه الذي لم يحصل إلا نوعا واحدا فضلا عن خادمه الذي لم يحصل شيئا من علومه بل الذي حصل علما واحدا فإنما عرف على التحقيق عشره إن ساواه في ذلك العلم حتى لم يقصر عنه فإن قصر عنه فليس يعرف بالحقيقة ما قصر عنه إلا بالاسم وإيهام الجملة وهو أنه يعرف أنه يعلم شيئا سوى ما علمه فكذلك فافهم تفاوت الخلق في معرفة الله تعالى بقدر ما انكشف لهم من معلومات الله عز وجل وعجائب مقدوراته وبدائع آياته في الدنيا والآخرة والملك والملكوت تزداد معرفتهم بالله عز وجل وتقرب معرفتهم من معرفة الحقيقة من معرفة الله تعالى.
فإن قلت فإذا لم يعرفوا حقيقة الذات واستحال معرفتها فهل عرفوا الأسماء والصفات معرفة تامة حقيقية قلنا هيهات ذلك أيضا لا يعرفه بالكمال والحقيقة إلا الله عز وجل لأنا إذا علمنا أن ذاتا عالمة فقد علمنا شيئا مبهما لا ندري حقيقته لكن ندري أن له صفة العلم فإن كانت صفة العلم معلومة لنا حقيقة كان علمنا بأنه عالم علما تاما بحقيقة هذه الصفة وإلا فلا ولا يعرف أحد حقيقة علم الله عز وجل إلا من له مثل علمه وليس ذلك إلا له فلا يعرفه أحد سواه وإنما يعرفه غيره بالتشبيه بعلم نفسه كما أوردنا من مثال التشبيه بالسكر وعلم الله عز وجل لا يشبه علم الخلق البتة فلا يكون معرفة الخلق به معرفة تامة حقيقية بل إيهامية تشبيهية.
ولا تتعجبن من هذا فإني أقول لا يعرف الساحر إلا الساحر نفسه أو ساحر مثله أو فوقه فأما من لا يعرف السحر وحقيقته وماهيته لا يعرف من الساحر إلا اسمه ويعرف أن له علما وخاصية لا يدري ما ذلك العلم إذ لا يدري معلومه ولا يدري ما تلك الخاصية نعم يدري أن تلك الخاصية وإن كانت مبهمة فهي من جنس العلوم وثمرتها تغيير القلوب وتبديل أوصاف الأعيان والتفريق بين الأزواج وهذا بمعزل عن معرفة حقيقة السحر ومن لم يعرف حقيقة السحر لا يعرف حقيقة الساحر لأن الساحر من له خاصية السحر وحاصل اسم الساحر أنه اسم مشتق من تلك الصفة إن كانت مجهولة فهو مجهول وإن كانت معلومة فهو معلوم والمعلوم من السحر لغير الساحر وصف عام بعيد عن الماهية وهو أنه من جنس العلوم فإن اسم العلم ينطلق عليه.
فكذلك الحاصل عندنا من قدرة الله عز وجل أنه وصف ثمرته وأثره وجود الأشياء وينطلق عليه اسم القدرة لأنه يناسب قدرتنا مناسبة لذة الوقاع لذة السكر وهذا كله بمعزل عن حقيقة تلك القدرة نعم كلما ازداد العبد إحاطة بتفاصيل المقدورات وعجائب الصنع في ملكوت السموات كان حظه من معرفة صفة القدرة أوفر لأن الثمرة تدل على المثمر كما أنه كلما ازداد التلميذ إحاطة بتفاصيل علوم الأستاذ وتصانيفه كانت معرفته له أكمل واستعظامه له أتم.
فإلى هذا يرجع تفاوت معرفة العارفين ويتطرق إليه تفاوت لا يتناهى لأن ما لا يقدر الآدمي على معرفته من معلومات الله تعالى لا نهاية له وما يقدر عليه أيضا لا نهاية له وإن كان ما يدخل منه في الوجود متناهيا ولكن مقدور الآدمي من العلوم لا نهاية له نعم الخارج إلى الوجود متفاوت في الكثرة والقلة وبه يظهرالتفاوت وهو كالتفاوت بين الناس في القدرة الحاصلة لهم بالغنى بالمال فمن واحد يملك الدانق والدرهم ومن آخر يملك ألافا فكذلك العلوم بل التفاوت في العلوم أعظم لأن المعلومات لا نهاية لها وأعيان الأموال أجسام والأجسام متناهية لا يتصور أن تنتفي النهاية عنها.
فإذا قد عرفت كيف يتفاوت الخلق في بحار معرفة الله عز وجل وأن ذلك لا نهاية له وعرفت أن من قال لا يعرف الله غير الله فقد صدق وأن من قال لا أعرف إلا الله فقد صدق أيضا فإنه ليس في الوجود إلا الله عز وجل وأفعاله فإذا نظر إلى أفعاله من حيث هي أفعاله وكان مقصور النظر عليه ولم يره من حيث هو سماء وأرض وشجر بل من حيث أنه صنعه فلم يجاوز معرفته حضرة الربوبية فيمكنه أن يقول ما أعرف إلا الله وما أرى إلا الله عز وجل.
ولو تصور شخص لا يرى إلا الشمس ونورها المنتشر في الآفاق يصح منه أن يقول ما أرى إلا الشمس فإن النور الفايض منها هو من جملتها ليس خارجا منها وكل ما في الوجود نور من أنوار القدرة الأزلية وأثر من آثارها.
وكما أن الشمس ينبوع النور الفايض على كل مستنير فكذلك المعنى الذي قصرت العبارة عنه فعبر عنه بالقدرة الأزلية للضرورة وهو ينبوع الوجود الفابض على كل موجود فليس في الوجود إلا الله عز وجل فيجوز أن يقول العارف لا أعرف إلا الله.
ومن العجائب أن يقول لا أعرف إلا الله ويكون صادقا ويقول لا يعرف الله إلا الله عز وجل ويكون أيضا صادقا ولكن ذلك بوجه وهذا بوجه ولو كذبت المتناقضات إذا اختلفت وجوه الاعتبارات لما صدق قوله تعالى: {وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى} سورة الأنفال الآية 17 ولكنه صادق لأن للرمي اعتبارين هو منسوب إلى العبد بأحدهما ومنسوب إلى الرب تعالى بالثاني فلا تناقض فيه.
ولنقبض هاهنا عنان البيان فقد خضنا لجة بحر لا ساحل له وأمثال هذه الأسرار لا ينبغي أن تبتذل بإيداع الكتب وإذ جاء هذا عرضا غير مقصود فلنكف عنه ولنرجع إلى شرح معاني أسماء الله الحسنى على التفصيل. اهـ.
وقال أيضا رحمه الله تعالى:
خاتمة لهذا الفصل واعتذار:
اعلم أنه إنما حملني على ذكر هذه التنبيهات ردف هذه الأسامي والصفات قول رسول الله تخلقوا بأخلاق الله تعالى وقوله عليه الصلاة والسلام إن لله كذا وكذا خلقا من تخلق بواحد منها دخل الجنة وما تداولته ألسنة الصوفية من كلمات تشير إلى ما ذكرناه لكن على وجه يوهم عند غير المحصل شيئا من معنى الحلول والاتحاد وذلك غير مظنون بعاقل فضلا عن المتميزين بخصائص المكاشفات ولقد سمعت الشيخ أبا علي الفارمذي يحكي عن شيخه أبي القاسم الكركاني قدس الله روحهما أنه قال إن الأسماء التسعة والتسعين تصير أوصافا للعبد السالك وهو بعد في السلوك غير واصل وهذا الذي ذكره إن أراد به شيئا يناسب ما أوردناه فهو صحيح ولا يظن به إلا ذلك ويكون في اللفظ نوع من التوسع والاستعارة فإن معاني الأسماء هي صفات الله تعالى وصفاته لا تصير صفة لغيره ولكن معناه أنه يحصل له ما يناسب تلك الأوصاف كما يقال فلان حصل علم أستاذه وعلم الأستاذ لا يحصل للتلميذ بل يحصل له مثل علمه.
وإن ظن ظان أن المراد به ليس ما ذكرناه فهو باطل قطعا فإني أقول قول القائل إن معاني أسماء الله سبحانه وتعالى صارت أوصافا له لا يخلو إما أن يعني به عين تلك الصفات أو مثلها فإن عنى به مثلها فلا يخلو إما عنى به مثلها مطلقا من كل وجه وإما أنه عنى به مثلها من حيث الاسم والمشاركة في عموم الصفات دون خواص المعاني فهذان قسمان وإن عنى به عينها فلا يخلو إما أن يكون بطريق انتقال الصفات من الرب إلى العبد أو لا انتقال فإن لم يكن بالانتقال فلا يخلو إما أن يكون باتحاد ذات العبد بذات الرب حتى يكون هو هو فتكون صفاته وإما أن يكون بطريق الحلول وهذه أقسام ثلاثة وهو الانتقال والاتحاد والحلول وقسمان مقدمان.
فهذه خمسة أقسام الصحيح منها قسم واحد وهو أن يثبت للعبد من هذه الصفات أمور تناسبها على الجملة وتشاركها في الاسم ولكن لا تماثلها مماثلة تامة كما ذكرناه في التنبيهات.
وأما القسم الثاني وهو أن يثبت له أمثالها على التحقيق فمحال فإن من جملته أن يكون له علم محيط بجميع المعلومات حتى لا يعزب عنه ذرة في الأرض ولا في السموات وأن يكون له قدرة واحدة تشمل جميع المخلوقات حتى يكون هو بها خالق الأرض والسموات وما بينهما وكيف يتصور هذا لغير الله تعالى وكيف يكون العبد خالق السموات والأرض وما بينها وهو من جملة ما بينهما فكيف يكون خالق نفسه ثم إن ثبتت هذه الصفات لعبدين يكون كل واحد منهما خالق صاحبه فيكون كل واحد خالقا من خلقه وكل ذلك ترهات ومحالات.
وأما القسم الثالث وهو انتقال عين صفات الربوبية فهو أيضا محال لأن الصفات يستحيل مفارقتها للموصوفات وهذا لا يختص بالذات القديمة بل لا يتصور أن ينتقل عين علم زيد إلى عمرو بل لا قيام للصفات إلا بخصوص الموصوفات ولأن الانتقال يوجب فراغ المنتقل عنه فيوجب أن تعرى الذات التي عنها انتقال الصفات الربوبية فتعرى عن الربوبية وصفاتها وذلك أيضا ظاهر الاستحالة.
وأما القسم الرابع وهو الاتحاد فذلك أيضا أظهر بطلانا لأن قول القائل إن العبد صار هو الرب كلام متناقض في نفسه بل ينبغي أن ينزه الرب سبحانه وتعالى عن أن يجري اللسان في حقه بأمثال هذه المحالات ونقول قولا مطلقا إن قول القائل إن شيئا صار شيئا آخر محال على الإطلاق لأنا نقول إذا عقل زيد وحده وعمرو وحده ثم قيل إن زيدا صار عمروا واتحد به فلا يخلو عند الاتحاد إما أن يكون كلاهما موجودين أو كلاهما معدومين أو زيد موجودا وعمرو معدوما أو بالعكس ولا يمكن قسم وراء هذه الأربعة.
فإن كانا موجودين فلم يصر عين أحدهما عين الآخر بل عين كل واحد منهما موجود وإنما الغاية أن يتحد مكانهما وذلك لا يوجب الاتحاد فإن العلم والإرادة والقدرة قد تجتمع في ذات واحدة ولا تتباين محالها ولا تكون القدرة هي العلم ولا الإرادة ولا يكون قد اتحد البعض بالبعض.
وإن كان معدومين فما اتحدا بل عدما ولعل الحادث شيء ثالث.
وإن كان أحدهما معدوما والآخر موجودا فلا اتحاد إذ لا يتحد موجود بمعدوم.
فالاتحاد بين شيئين مطلقا محال وهذا جار في الذوات المتماثلة فضلا عن المختلفة فإنه يستحيل أن يصير هذا السواد ذاك السواد كما يستحيل أن يصير هذا السواد ذلك البياض أو ذلك العلم والتباين بين العبد والرب أعظم من التباين بين السواد والبياض والجهل والعلم.
فأصل الاتحاد إذا باطل وحيث يطلق الاتحاد ويقال هو هو لا يكون إلا بطريق التوسع والتجوز اللائق بعادة الصوفية والشعراء فإنهم لأجل تحسين موقع الكلام من الإفهام يسلكون سبيل الاستعارة كما يقول الشاعر:
أنا من أهوى ومن أهوى أنا ** نحن روحان حللنا بدنا